ربَّما كانت أهمُّ حادثة في حياة الطفل الذي بلغ سنة واحدة من العمر شروعه في خطواته الأولى ، ويمثل ذلك بالنسبة إليه شكلاً من أشكال المعرفة ، كما يمثل أيضاً الاستقلال الذاتي عن الكبار الذين كان يعتمد عليهم اعتماداً كبيراً .
وفي السنة الأولى من العمر يعرف الطفل كيف يعبِّر عن نفسه ويفهِّم نفسه للآخرين بصورة جزئية باستعمال ألفاظ معيَّنة ، وبمزيد من الإيضاح عن طريق الإشارات والتعابير ، وعلى هذا النحو يتمكن الطفل أخيراً من تأسيس علاقة واتصال بالناس ، وتبدأ مرحلة جديدة بالنسبة إلى الطفل يشرع فيها في التلاؤم مع قواعد البيئة التي يعيش فيها عن طريق التقليد والاستحسان الذي يلقاه من الناس الذين يعيشون معه .
ومن الطبيعي أن يقوم الطفل - من دون قيود أخرى - بتكرار المواقف التي يتلقى إطراء عليها من الناس الذين يعيشون حوله بصورة طوعيَّة ، ويغدو بعد ذلك أكثر استقلالاً ، ومن جهة ثانية فالسلوك الذي يسلكه الطفل ثمَّ لا يسمع ثناء عليه أو إطراء له - بل ربما سمع توبيخاً وتأنيباً - يدفعه إلى الإقلال منه تدريجاً وعدم تكراره إلا نادراً .
وهكذا يتعلَّم الطفل أن هناك قواعد اجتماعية عامَّة ينبغي له أن يتكيَّف معها إذا أراد أن يسمع إطراء من الآخرين ، وبمرور الزمن يعرف الطفل أنَّ هناك أشياء يستطيع القيام بها ، وأشياء لا يستطيع القيام بها .
وأن هناك أشياء لا يقدر على القيام بها إلا في مواقف خاصة ، وبعد أن يبلغ الطفل السنة الثانية من العمر تتغيَّر المشكلات التي يصادفها في تدريبه الاجتماعي ، وتختلف باختلاف قدرة الطفل على القيام بأنشطة مختلفة بواسطة قدراته الحركية الإضافية ، وهي الأنشطة التي كان الآخرون يساعدونه في القيام بها .
وبعد أن يكتسب الطفل القدرة على حريَّة الحركة - كما هو واضح - يحاول الحصول على استقلاله ويشعر بأنه قادر على رفض القيام بأعمال معيَّنة ، بصورة عامَّة يتَّسم نشاطه في هذه السنِّ بشيء من الهيَجان ، فهو لا يهدأ لحظة واحدة ، ويبدو دائم الرغبة في الاستكشاف والإمساك بالأشياء والملاحظة .
كما أنه يستشيط غضباً من نفسه إذ هو عجز عن أداء أعمال من دون مساعدة شخص كبير ، ويصادف أن ينهمك في اللعب والاستكشاف ، إلى درجة أنه ينسى أمَّه فلا يذكرها إلاَّ إذا أصابه أذى ، أو وقع في مأزق فيهرع إليها حينذاك .
هذا ، وترتبط المشكلات التي يواجهها الطفل الذي بلغ سنتين من العمر تقريباً بقضية أساسية هي أنه تعوزه الخبرة ، وأنه لا يستطيع أن يقرِّر منذ البداية إذا كان قادراً على إنجاز ما يريد إنجازه أم لا .
فقد يصاب الطفل بإخفاق أو بخيبة أمل ، فلا ينبغي أن يكون ذلك سبباً في قلق الأم ، ذلك أن مثل هذا الإخفاق وخيبة الأمل يسهمان إلى حدّ ما في نموِّه النفسي ، ومهما يكن من أمر فحضور الأبوين أمر لازم ، وإن كان يجب ألاَّ يتحول إلى شكل من أشكال الحماية المفرطة ، والحقُّ أنَّ كثيراً من الآباء يعتقدون أن استقلال الطفل أمر غير طبيعي ، وأنَّه يؤدِّي حتماً إلى التأثير فيه بصورة سلبيَّة .
فهم لذلك يزيدون من رقابتهم عليه ، فمن الغريب حقاً أنْ ينظرَ الآباء إلى ابنهم على أنه قد أصبح ناضجاً عندما يرغبون في تعليمه السير أو الكلام ، ثمَّ نجدهم يخشون من تركه وحده عندما يناقشون مسألة استقلاله الذاتي ، فهم يحاولون تنظيم كل لعبة يلعبها فلا يدعونه وشأنه ولو لحظة واحدة ، إذ يخشون أن يؤذي نفسه أو يوقع ذلك حزناً في قلبه ، ولكنهم بهذه الطريقة يعيقون نموَّه العاطفي الطبيعي ، بل حتى نشاطه الحركي النفسي .
ومن جهة أخرى ، عندما يبلغ الطفل الثانية من العمر تقريباً يصبح اجتماعياً إلى درجة أكثر ، فهو يلعب وحده لفترات قصيرة من الزمن ، ولكنه يشعر بالسعادة إذا شاركه أحد في ألعابه ، أما عندما يدخل الطفل في الثانية فإنه يلاحظ ألعاب الآخرين وينجذب إليها ، وفي السنة الثالثة ، وبعد أن يندمج في المجتمع اندماجاً أكثر يسعى إلى صحبة الأطفال الآخرين ، ويشترك اشتراكاً فعالاً في ألعابهم .
والحقُّ أنَّ الباعث على هذا التكيُّف الاجتماعي بالغ الصعوبة بالنسبة إلى طفل في الثالثة من العمر ، وغالباً ما يتمثل هذا التكيُّف الاجتماعي في صوَرٍ شَتَّى ، منها اختطاف دمية من طفل آخر ، أو مجادلته أمر ما ، أو ربَّما تمثَّل أحياناً في هجرانه .
ومما يجدر ذكره أنَّ الأطفال يحلُّون مشكلاتهم بأنفسهم ، وينبغي فسح المجال أمامهم للقيام بذلك بعد أن شرعوا في حياة اجتماعية مناسبة ، وينبغي أن يتعلَّموا بالتجربة والخطأ كيف ينسجمون مع أقرانهم ، ومن الطبيعي جداً أن يلعب طفل في الثانية من العمر مع طفل آخر ، جنباً إلى جنب ، دون أن يشارك الواحد منهما الآخر في لعبته .
وفي أثناء السنة الثالثة ، وبعد مرحلة الاندماج الاجتماعي مع الأقران ، يظهر الأطفال تفضيلاً نحو صديق معيَّن يرغبون في مصادقته ، والبقاء على قُرب منه أكبر قدر ممكن ، وعلى الرغم من هذا التطوُّر الجديد في السلوك الاجتماعي للطفل الذي بلغ الثالثة من العمر ، فإنه يرغب كذلك في أن يقضي قدراً كبيراً من الوقت للقيام باستكشافاته وأعماله مستقلاً عن الآخرين .
بل حتى ضمن الأسرة نفسها ، كذلك يخطو الطفل البالغ ثلاث سنوات من العمر خطوات كبيرة في التكيُّف الاجتماعي والنموِّ العاطفي ، فيشرع في الاهتمام بأمِّه وأبيه ، ويصرف النظر عن جسمه ونفسه ، وتزداد لديه نزعة التعلق بوالديه في السنوات التالية ، ولكنها تتمثَّل لدى الطفل تمثلاً قوياً في السنة الثالثة تقريباً .
وربما كان لمدارس الحضانة أو غيرها من المؤسسات المشابهة دور قوي في عملية التكيُّف الاجتماعي ، فالمجال فيها مفتوح أمام الطفل للاندماج مع الأطفال الآخرين ، ولذلك فلا بأس أن تتعرَّف الأم على أمهات أخريات لديهنَّ أطفال من العمر نفسه ، فيخطو الطفل إذ ذاك خطوات سريعة في عملية التكيف الاجتماعي .
منتدى البقالي عمر من طنجة